سارة محمد شحاتة
في بعض الأيام أفضل الذهاب للكلية بالمترو، خاصة اليوم الذي نحضر المعامل فيه كلية الطب، وفي إحدى المرات بينما كنت في عربة السيدات وبينما يوشك المترو على القيام وتوشك الأبواب على الانغلاق ومغادرة المحطة إذا برجل عجوز كما يقولون.. يمشي مسرعا على قدر استطاعته وقد أحنى قامته الهزيلة أمامه لعل ذلك يزيد من سرعته، إذا به يلهث من هذا المجهود، ولكنه لم يجد أمامه سوى عربة السيدات وإلاّ فاته المترو فركب مسرعا وقد أُغلِق الباب بعده بربع ثانية، وما كاد يسترد أنفاسه اللاهثة حتى سارعت إحدى السيدات بالصراخ وتوجيه التوبيخ له "يا حاج دي عربية سيدات ممنوع الرجالة هنا".
فيرد عليها باستكانة: "يا بنتي مالحقتش الباب كان حيقفل"، وتدخلت السيدة التي بجانبي في هذا الحوار الراقي قائلة:
"يعني إيه يعني .. إيه الحجج دي.. عربية السيدات للسيدات!".
ولم يجد الكهل ما يرد به عليهن ولمن لم يحظَ بشرف التجربة.. لا أراكم الله غضب سيدات عربة السيدات!!
أنا كنت مندهشة لكل هذه المبالغة في رد الفعل وشعرت بشفقة تجاهه وقد ارتبك وتلعثم على شفتيه الرد؛ فتخيلت جدّي الحبيب -رحمه الله- وهو في هذا الموقف فلم أطِل الصمت وتهورت وخاطبت هامسة من كانت بجانبي: "إيه المشكلة لما يركب.. دي عربية سيدات مش حاجة تانية! والراجل ما ارتكبش إثم يعني"؛ فوجدتها وقد رفعت حاجبيها في مزيج من الاستنكار وعدم التصديق لهذا التجديف الذي أقوله و"شخطت" فيّ قائلة:"إيه يا آنسة هو أنتِ ماعندكيش حاجة اسمها نظام!".. غلي الدم في عروقي ولم أهمس هذه المرة:"يا سلام أصله النظام فعلا واخد حقه مع المصريين! يظهر النظام في اللي عاوزينه بس، وبعدين مش كفاية إنه راجل عجوز ومفيش واحدة قامت له عشان يقعد!"؛ فرأيت نظرة الدهشة على الوجوه حتى على وجه الرجل نفسه!! الظاهر إن المفروض كنت ألتزم الصمت؟.. لا أدري حقا!
وأخذت السيدة ترميني بنظرات سخيفة وتمصمص شفتيها مع الكثير من "بنات وجيل آخر زمن!؛ فانسحبت من موضعي إذ المحطة القادمة كانت محطتي، وتوجهت إلى الباب حيث كان يقف الرجل منتظرا المحطة القادمة حتى يقوم بتغيير العربة فقلت له:"معلش حضرتك ما تزعلش أصل عربات السيدات عندنا حشمة! ومش عارفة مالهم، يعني أصلا موضوع السيدات ده نسبي جدا!"؛ فضحك وهمّ أن يقول شيئا ثم عدل عن ذلك فقلت له: "بس خلي بالك المرة الجاية ماتركبش عربة السيدات" فرد قائلا: "والله ما كنت عاوز أركب هنا أصلا.. أنا رايح أشتري كيس دم عشان الولد اللي مرمي في المستشفى -الله يجازيهم- أصل مفيش أكياس دم عندهم في المستشفى".. ثم سكتُّ قليلا ولم أدرِ ما أردُّ به فتمتمت:"فعلا مبقاش حدّ عنده دم"، فعاد وقال:
"وبعدين أركب تاني هنا ليه هو العمر بعزقة!!".
فضحكت بدوري وقد أخذ المترو في التهدئة للوقوف في محطتي فلمّا لمح البالطو المعلق على كتفي قال: "شاكلك رايحة الكلية ربنا يحميكِ ويوفقك يا بنتي"، وفُتِح الباب فنزلت ونزل خلفي مسرعا كي يركب العربة المجاورة، ورغم ما حدث واكتشافي أني من "بنات وجيل آخر الزمان"! إلا أنني كنت سعيدة بهذه الدعوة وسعيدة أكثر لأنه ذكرني بجدي -رحمه الله-.
وإلى السادة الرجال.. حذار من عربة السيدات لا يختلط عليكم الأمر.. خصوصا هذه الأيام بعد حادث التحرش، السيدات متحفزات للانتقام!.. خدوها حكمة.. العمر مش بعزقة!